للتواريخ وهج لا ينطفيء، وللزمان سيمياء لا تنقضي، وموعد السادس من أبريل كان سخيا بالذكريات الماجدات المنبعثات من أرض الكنانة، لكنه غير ذلك في الحالة المغربية. وإن كنت لا أدري، هل الذين قرروا الخروج بـ”الدار البيضاء” قد اختاروا هذا الموعد وهم يدركون حمولته الرمزية في قاموس الربيع الديموقراطي، أم أنه مكر التاريخ الذي لا ينقطع، فعلها مرة أخرى، ووضع هؤلاء، بوعي أو بدونه، في مأزق مقارنة تعوزها قرون بل سنوات ضوئية من الفوارق.
بداية ولكي نزيل كل لبس قد يتسرب إلى نفوس أمَّارة بالسوء، فنحن لسنا من هواة الشماتة ولا محترفي التبخيس والمكابرة، ولا تتحكم فينا “المآرب الأخرى” لطمس الحقائق أو وأد الوقائع، وعليه فإننا نؤكد أن المغرب في حاجة ماسة إلى فعل نقابي قوي ومنظم، ينتصب محاورا للسياسات العمومية، ورقيبا على الفعل التدبيري، وأمينا على مكتسبات الشغيلة، منافحا عن أحلامه.
ولكن قبل ذلك شريكا أساسيا في توجيه سفينة الوطن نحو الأمان، مستحضرا لإكراهاتها، مدركا للضغوط المقلصة لهوامش المناورة لديها في لجة المتغيرات الظرفية وتحولات المحيط. باختصار إن العمل النقابي الذي نريده، هو ذلك الصوت القوي الصادح جهراً، الغاضب حقاً، المنحاز دوماً، إلى نداءات الهامش وأنين المسحوقين، ولكنه أيضاً ذاك العقل البصيرُ وعياً، والمبادرُ فعلاً. والغيور صدقاً، على البلد ومصالحه، إنها معادلة العاطفة والعقل، الاحتجاج والمسؤولية، المعارضة والاقتراح.
نقول هذا الكلام في البداية لندفع عنا شبهة التحامل على “النقابات العتيدة “الثلاث، التي دعت للخروج يوم 6 أبريل بـ”البيضاء”، قبل آن نطرح سؤالا كبيرا ومحرجاً في الآن ذاته، سؤال يسائلنا جميعا ويتخطى واقعة “البيضاء” والتي يمكن عنونتها بالجبل الذي تمخض فولد فأرا، إنه سؤال أكبر وأعمق من مجرد نزهة ثقيلة لم تتحمل حرارتها الربيعية صحة “الزعيم الخالد” بساحة النصر، فحشدت أحزمة الاتباع وعضلاتهم وألسنتهم لردع فضول الصحفيين. إنه سؤال عن ما الذي جعل المواطن المغربي في هذه المرحلة بالذات زاهدا في خيار الخروج للشارع؟، ما الذي يعمق القطيعة بين النداءات المتكررة لاستوطان ضجيج الشعارات والحناجر المستقيلة أو المقالة عن تقمص أدوار البرَّاح.
سؤال أعادت طرحه هزالة الاستجابة لنداء الخروج يوم 6 أبريل بعد أن فجرته فضيحة الاستعانة بالحمير “حاشاكم” لمواراة سوءة موعد سابق للخروج! خروج أريد له في الموعدين أن يكون هادرا مزلزلا فإذا به وفي الحالتين معا يصير خُداجا مهينا ولا يكاد يبين.
إن ما لا يدركه شيوخ الهياكل الشمطاء، أن هناك جيلا جديدا من الوعي نضجت معالمه واستوى عوده، وأينعت ثماره، وعي عصي على التنميط والاقتياد، فنحن في مرحلة انمحى فيها مفهوم الزعيم الملهم، المالك للقرار، والمتحكم في الرقاب والمصائر، وذلك لسبب بسيط وهو أن إحكام القبضة على التنظيمات وإغلاق النوافذ لا يعني بالضرورة أن رياح الخارج لن تصل إلى “قاع الدار”، ففي زمن المعلومة المشاعة، والمعرفة المباحة، والتخمة المعلوماتية المنسابة. لم يعد القائد الملهم والتنظيم الخالد من يمتلك المعلومة ويتصرف بها ومن خلالها، وفق المواقع والحسابات، يجيش بها حينا، ليخفيها او يتستر عليها أحايين كثيرة في مواسم الحصاد وقطاف الثمار، خلف الأبواب الموصدة، وعلى الموائد المعلومة، في مسرحيات رتيبة مكرورة. إننا اليوم أمام مواطن يتشكَّل بمنطق جديد، يعيي إكراهات بلده، واختفى وإلى الأبد، ذلك الكائن المعزول الذي لاحول ولا قوة له أمام دعاية الحزب والقبيلة، صرنا اليوم أمام مواطن يدرك ما معنى الأزمة وما ترتبه من إكراهات، مواطن يعيش في صلب المتغيرات الدولية تفاعلا وتأثرا، مواطن له إمكانات التنقيب عن صدقية الخطاب، وانسجام السلوك، بمعزل عن ادعاء احتكار الشرعيات الخالدة ، وتأبط التاريخ كصك للاستعباد والاستبداد.
المواطن المغربي الذي خرج في 2011 بمحض إرادته، وملأ شوارع المملكة هديرا وغضبا، هو ذاته الذي انسحب وترك محترفي الارتزاق السياسي كالأيتام في مآدب، إنه المواطن الذي تلقى الرسالة ذات مارسٍ ووعاها وقرأها على ضوء ما يحدث بالجوار فاستمسك بالأوثق من العرى، ممعناً في الحفاظ على استقراره إلى درجة الإدمان وجاحدا درجة الكفر بخطابات التيئييس والتبخيس.
هذا لا يعني أننا نستبطن اطمئناناً تاما بالوضع على ما فيه من اختلال، أو ارتياحا مطلقا بمنهجية التدبير، ولكن نعتقد أن الدعوة اليوم قائمة وبإلحاح إلى ضرورة انخراط الجميع ومن كل المواقع، في استصحاب الوعي الكامل بخطورة اللحظة، وأن هامش الخطأ المتاح بدأ يقل يوما بعد يوم، فالأوراش الموعودة للإصلاح تحتاج هبة عالية وإرادة قوية، والتأخير أو التأجيل يعني الاقتراب أكثر فأكثر من فوهة البركان.
محمد عصام: برلماني سابق عن دائرة “سيدي إفني” – “تِـغِيـرْتْ نْـيُوزْ”
رابط قصير: http://www.tighirtnews.com/?p=4263