على امتداد الطريق الإقليمية 1909 الرابطة بين “تيزنيت” و”أكلو” على طول 15 كلم تقريبا، تبدو حركة السير بطيئة في هذا اليوم القائظ من بدايات شهر يوليوز التي تصادف مطلع شهر رمضان الفضيل، بخلاف ما يشهده هذا المقطع الطرقي من رواج وازدحام لكونه يمثل الشريان الوحيد الذي يربط المدينة بالمحيط الأطلسي غربا.
عند مشارف شاطئ “أكلو”، تطالع الزائر إلى جهة اليسار طريق ثانوية ضيقة تنساب عبر ربوة جبلية محاذية للأطلس الصغير تتخللها بعض المساكن ما تلبث أن تنكشف عن بناية ساطعة البياض تتوسطها صومعة سامقة كمن تضاهي في امتدادها عظمة المكان بهدوئه الأسطوري الذي يخفي في سكونه قصة زاوية استثنائية شكلت معقلا حافلا بالأحداث والوقائع في تاريخ الجنوب المغربي بل وفي تاريخ المغرب برمته.
“الحاج محمد”، رجل سبعيني من سكان القرية تزامن وجوده بالمسجد مع قراءة الحزب بين العصر والمغرب، يحكي كيف شهدت رحاب هذه الزاوية تغييرات كبرى خلال العشر سنوات الأخيرة بفضل أحد المحسنين الذي تكفل بأشغال البناء والتوسعة، حتى غدا المكان يضم ثلاث طبقات ومطبخا ومساكن للطلبة ومكاتب ومجالس للفقهاء ومجلسا للضيوف ومرافق صحية وقاعات للتدريس تتسع لثمانين مقعدا.
ويكشف “محمد واسميح” مدرس مادة القرآن بمدرسة “أكلو” في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء أن “هذا هو ضريح “سيدي وكاك بن زلو اللمطي” أحد أشهر أولياء سوس وهذه مدرسة “سيدي وكاك” العتيقة، أول مدرسة في المغرب بعد الفتح الإسلامي حيث تتلمذ “عبد الله ابن ياسين” قبل أن ينتقل إلى تخوم الصحراء ليشيد منها أركان الدولة المرابطية”.
هنا، لا شيء يوحي بأن للمكان كل هذه الكثافة التاريخية وهذا الإشعاع الروحي لولا بعض الإشارات التاريخية المثبتة عند مدخل الضريح من قبيل لـ”سيدي وكاك” ثلاثة أولاد “يحيى” و”ياسين” و”أبو علي”، أخذ عن سيدي “محمد بن تيسيت” بـ”أغمات” وعن “أبي عمران الفاسي” بـ”القيروان” ثم رجع إلى نفيس سنة 430 هجرية وتوفي بـ”أكلو” سنة 445″.
والحال أن “سيدي وكاك”، الذي خصصت ثلاثة أيام دراسية في ماي 2010 لإحياء الذكرى الألفية لإحداث المدرسة التي تحمل اسمه في موضوع “رباط وكاك بن زلو اللمطي” وترسيخ الوحدة المذهبية والهوية الوطنية بالمغرب”، طبع برأي العديد من الدارسين والمؤرخين على حركة دائبة للتمكين للدين الإسلامي في المجتمع والفكر والثقافة وربط المسلمين بالعقيدة السمحة واجتثات جذور الوثنية والانحراف العقدي، في زمن طغت فيه على الغرب الاسلامي مذاهب دخيلة كالخوارج والروافض والبرغواطيين”.
وتحفل كتب التراجم بأخبار الفقهاء العاملين الذين كونوا الأجيال وخرجوا العلماء وقادوا الفكر والمجتمع في تلك المرحلة ومنهم “سيدي وكاك”، أي “ابن الفقيه” بالأمازيغية، والذي ينتسب إلى قبيلة “لمطة” التي كانت مستقرة على “وادي نول لمطة” في منطقة “أيت باعمران” الحالية من والد عالم بالقرآن ينتمي إلى الشرفاء الأدارسة حسب ما يدل على ذلك مشجر أنساب أسرته الوارد في “المعسول” لـ”المختار السوسي”.
وتشير المصادر إلى أن “وكاك” هذا رحل إلى “القيروان” حيث لقي “عبد الله بن أبي زيد القيراوني” المتوفى سنة 386هÜ ودرس عليه ثم لازم تلميذه “أبا عمران الفاسي” حتى تخرج عليه، ليعود أدراجه بعد أن اكتفى من الأخذ عنه إلى المغرب للمشاركة في التربية والتعليم بمعية طائفة من زملائه في الدراسة، قبل أن يعلو كعبه ويذيع صيته بسبب ارتباط اسمه بتلميذه “عبد الله بن ياسين” مؤسس الدولة المرابطية (1040/1147).
وعن أسباب انتقاله إلى “أكلو” بعدما أقام برباط “نفيس”، يرجح عدد من الدارسين أن يكون مرد ذلك إلى عزمه مواصلة محاربة المذاهب الضالة بـ”سوس” ومتابعة أعمال “عبد الله بن ياسين” عن قرب بحكم قرب منطقة “أكلو” من الصحراء، لاسيما وأن هذا الأخير ظل يراسل شيخه اللمطي ويستشيره ويرجع إليه في تدبير أموره بين اللمتونيين، حتى أثمرت جهوده بترسيخ أسس الدولة المرابطية التي مكنت من توحيد المغرب بل والغرب الإسلامي كله والقضاء على التفرقة والتشرذم والتمكين بشكل نهائي للمذهب المالكي.
واليوم وبعد مضي أزيد من ألف عام على بناء رباط “أكلو”، يؤكد السيد “واسميح “الذي يدرس هنا منذ 23 عاما، أن مدرسة “سيدي وكاك” ما زالت تستقطب أزيد من ثمانين طالبا من مختلف جهات المملكة لا سيما من “حاحا” و”سكساوة” و”أمزميز” و”وارزازات” و”قلعة السراغنة” و”برشيد” و”آيت باعمران” و”إداوتنان” و”لاخصاص” و”إداو سملال” وأحيانا من “الحسيمة” بل وحتى من “الجزائر”.
وأوضح أنه يشرف إلى جانب الفقيه “محمد البوجرفاوي”، الذي يدرس هنا منذ أزيد من ثلاثين عاما علوم النحو والفقه و الفرائض والفلك، على تلقين الطلبة أسس العلوم الشرعية وفق منهجية تراعي طرق التدريس بالمدارس العلمية العتيقة وفق برنامج زمني خاص بشهر رمضان “شهر القرآن” يبتدئ من الفجر إلى 11 صباحا، ثم يستأنف مع الساعة الثانية بعد الزوال إلى صلاة العصر بتلاوة القرآن بشتى القراءات.
وبالرغم من أن المدرسة خاضعة لنظام الأوقاف والشؤون الإسلامية منذ 2007، إلا أنها لم تفرط في العمل بالنظام القديم، بحيث ما زال المحسنون هم من يشكل مصدر التمويل والتموين الأساسي للمدرسين وللطلبة، الذين قد يقضون ما بين 10 و12 عاما في هذا المكان قبل أن يتخرجوا كخطباء يؤمون المؤمنين في صلاة الجمعة بعد الحصول على شهادة من المدرسين مشفوعة بتزكية من المجلس العلمي المحلي.
ويقدر عدد المدارس الدينية العتيقة في المغرب بحوالي 494 مدرسة يشرف على التعليم فيها 1531 أستاذا وتضم أزيد من 21 ألف طالب، مع تمركز خاص في منطقة سوس لاسيما بقبائل “إداوسملال” و”إداو بعقيل” بإقليم “تينزيت”، كما بإقليم “أشتوكة آيت باها” (مثل مدارس إداو منو وتاعلات وتنالت) وإقليم تارودانت.
“تِغِيرْتْ نْيُوزْ” عن (و.م.ع) / حسين ميموني
رابط قصير: https://www.tighirtnews.com/?p=5939
لﻷسف الشديد الزوايا هي من ساهم بشكل كبير في نشر الجهل و التخلف لدى شريحة كبيرة من الناس في المغرب، وبالخصوص لدى اﻷميين منهم.
أكتب تعليقك